الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية بقلم الراحل صالح الزعيدي: تقدم الأمم رهين قدرتها على الابتكار والإبداع

نشر في  24 أفريل 2018  (12:31)

إن بلادا مثل بلادنا، وهى ليس في وسعها تحقيق التراكم المالي، مجبورة على التعويل على قدرات نسائها ورجالها لخلق الثروة

إنّ الإبداع والابتكار والخلق تصبح ضرورات قصوى وتشجيعها واجب إلى درجة الجعل منها خيارا أساسيا من خيارات التنمية...

هل سيأتي يوم وتنطلق فيه «اجيورنامنتو» كاملة لإعادة الاعتبار لقيم الابداع الفني والثقافي والمعرفي؟



عندما طرحت في الستينات والسبعينات، على اثر استقلال العديد من البلدان الإفريقية وبروز بلدان كبيرة في أمريكا اللاتينية بعد ثورة كوبا وتوسع حركة التحرر من الهيمنة الأمريكية على تلك المنطقة، عندما طرحت قضية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه المناطق والشعوب العديدة التي كانت ترزح تحت الهيمنة الامبريالية الغربية، برزت عدة تصورات ونظريات حول الخيارات الخاصة بمنوال التنمية الذي من شأنه أن يحقق نسبا مرتفعة من النمو الاقتصادي.. وظهرت اختلافات كبيرة وانطلقت صراعات فكرية وسياسية قوية بين أصحاب التوجه الرأسمالي الليبرالي وأصحاب التوجه الاشتراكي أو لنقل أصحاب منظومة رأسمالية الدولة...
وتطورت الأحداث، وانتقلت الرأسمالية المهيمنة عبر عدة مراحل أصبح في نهايتها الرأسمال المالي العالمي هو المهيمن، وسقطت منظومة العالم الشرقي الروسية وتبعاتها، وتحررت عدة بلدان أمريكا اللاتينية من الهيمنة الامبريالية الأمريكية، وبرزت الصين كقوة اقتصادية عظمى بعد التراجع الكبير لليابان... وواصلت المنطقة العربية في عدم استقرارها وتخلفها الصناعي والاقتصادي والثقافي، وبرزت وترعرعت التيارات الإسلامية الاخوانية والوهابية فزادت «أرض الإسلام» تأخرا وتخلفا عن العالم المتقدم...
وكان العديد من المحللين يعتقدون أن تقدم البلدان التي بقيت متخلفة عن العالم سيأتي بالضرورة عبر نشر التعليم...واندفعت عدة حكومات في المنطقة العربية، وبالخصوص تونس ، في سياسة نشر التعليم على أوسع نطاق بل وجعلته إجباريا حتى سن السادسة عشرة، فانتشرت المدارس ثم المعاهد ثم الجامعات والكليات والتحق التعليم الخاص بركب العمومي مساهما في نشر التعليم والمعرفة...
واكتشفنا بعد مرور عقود على انتشار التعليم أن تعليمنا وجامعاتنا تنتج في حقيقة الأمر عاطلين عن العمل بمئات الآلاف...
مرّ عدد العاطلين عن العمل من 300.000 في أواخر العشرية الأولى من القرن إلى  أكثر من  600.000 وبلغ عدد العاطلين عن العمل  من أصحاب الشهائد ربع مليون سنة 2017.
نحن ننتمي إلى بلد يفتقر إلى المواد الأولية التي تعتمد عليها بلدان أخرى تتكون ثروتها من النفط أو من الغاز أوغيرها... نحن لسنا دولة صناعية كبيرة، بل نحن نورد أغلبية المواد الصناعية التي نحن في حاجة إليها، إضافة إلى أننا نورد بكثرة المواد الاستهلاكية التي نحن في حاجة إليها بل قل حتى تلك التي نحن لسنا في حاجة إليها...
إن بلادا مثل بلادنا، وهى ليس في وسعها تحقيق التراكم المالي الذي يجعلها قادرة على تعبئة استثمارات هائلة تمكنها من تحقيق تنمية ذات مستوى عالي تتراوح فيه نسبة النمو ما بين 6 و8  بالمائة على الأقل، مجبورة على التعويل على قدرات نسائها ورجالها لخلق الثروة، وذلك بالاعتماد بقدر كبيرعلى الرأس المال البشري...
إن بلدا محدود الإمكانيات والثروات الطبيعية، لا مناص له من تعبئة طاقاته البشرية والفنية والعلمية والمعرفية ليجعل من تلك الطاقات مصدر ثروته ومصدر  إشعاعه...
إنّ الإبداع والابتكار والخلق تصبح ضرورات قصوى وتشجيعها واجب إلى درجة الجعل منها خيارا أساسيا من خيارات التنمية...
وفي تونس، أين نحن من كل هذا؟ نحن مجتمع كان يقدس تقديسا المعلم والمدرس بصفة عامة حتى العشرية قبل الأخيرة تقريبا من القرن الفارط، ثم تحولت الأمور شيئا فشيئا إلى فقدان المدرس السمعة والهالة التي تصحبه ليصبح موظفا صغيرا عاديا ويفقد جزءا كبيرا من القدر والمحبة اللتان كان يتمتع بها لدى الجميع...
 ان مثقفين ومبدعين ومبتكرين يتركون في حالة تهميش يصبحون  في موقع ثروة مهملة وغير منتجة وغير مستغلة... انظروا إلى حالة مراكز البحوث عندنا منذ عدة عشريات وبالنسبة للبعض منها منذ نشأتها...تحولت مراكز البحث العلمي والتقني والفني إلى مجرد إدارات مبقرطة إلى درجة لا تطاق...أصبح الباحث موظفا إداريا يتقاضى راتبا محترما يكون مقابله عمل نادر جدا... لاشك إن «القدامى» يتذكرون ما كان عليه من إشعاع «مركز الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية» التابع للجامعة التونسية، وما كان يمثله من بؤرة لا تكل تشتغل في البحث والتعمق ونشر الأبحاث والمعرفة المكتسبة وتنظيم مستمر لندوات وورشات تجمع العديد من الأساتذة والباحثين وبحضور مكثف للعديد من الطلبة والطالبات... ومما كان يزيد رونقا لهذه الأنشطة المكثفة المشاركة الفعلية لعدد من  الأساتذة الفرنسيين الكبار في ميادين الحقوق واللغات والفلسفة (فوكو) وعلم الاجتماع (بورديو) وغيرها...
لقد كانت فترة السبعينيات والثمانينات تمثل حقا الفترة الثرية والممتازة جدا في الحياة الفكرية والثقافية...كانت حقا فترة يمكن القول عنها أنها شهدت ثراء وكثافة إبداعيين متميزين لم نشهد مثيلها في العشريتين الأخيرتين.. أبدع مسرحيونا، وابدع شعراؤنا، وأبدع سينمائيونا... وأصبحت تونس تعد مركز انتاج ونشر وتوزيع  سينمائي ومسرحي متميز في إفريقيا، وأصبح مهرجان قرطاج الدولي حدثا إفريقيا وعربيا وحتى عالميا.. وأصبح مهرجان الجاز في عين دراهم يؤمه كل سنة الآلاف من الشباب من تونس ومن عدد من الدول الإفريقية وحتى الأوروبية، وانتشرت الفرق الموسيقية والمسرحية إلى الجهات في قفصة وفي عين دراهم وفي الكاف وبنزرت واستقرت بها خدمة للامركزية الثقافية ومساهمة في نشر الثقافة بمختلف منتجاتها إلى سكان المناطق الداخلية وشبابها بصفة خاصة..
إن ما حدث في العشريتين الأخيرتين مثل منعرجا خطيرا في الحقيقة: وقع الإشهار والتبجيل بالتكنولوجيا المكتشفة كل يوم أهميتها وتأثيرها على الاقتصاد وعلى مستقبل الناس عموما تفاقم وأصبحت التكنولوجيا وكأنها الايديولوجيا الجديدة  للبورجوازية الرأسمالية الحاكمة على مستوى العالم خاصة بعد سقوط المنظومة السوفيتية..
المعرفة في طريقها إلى أن تصبح مرادفة للتكنولوجيا، والإبداع في طريقه إلى أن يصبح مرادفا للإبداع التقني، كل هذا على حساب المعرفة  الواسعة والمتنوعة (ولا أقصد الأكاديمية فحسب) وعلى حساب الإبداع الفكري والثقافي والفني..
إن أخشى ما نخشاه  هو نوع من التصحر الفكري والثقافي الذي يهددنا من جراء الجري المجنون وراء التكنولوجيا ومن وراء تقديسها كأنها «ديانة جديدة» ستعوض كل شيء وتجيب على كل حاجياتنا ومتطلبات حياتنا.. إننا في حاجة إلى وعي عميق بأن كل انحسار للإبداع الفكري والثقافي والفني إنما يشكل انتكاسة خطيرة في مسار الإنسانية وردة كبيرة في مسيرتها...
  إننا كنا نقول: «كلما فتحت مدرسة أنقذت أمة».. آن الأوان ـ مع الأسف  ـ أن نصرخ: «كلما أغلقت قاعة سينما أو مسرحا ألحقت الضرر بأمة».
ان ما شهدته تونس خلال العشرين سنة الماضية من تقلص كبير لعدد قاعات السينما ـ حيث لم تبق في كافة تراب الجمهورية سوى 14 قاعة عرض للسينما مع فقدان أية قاعة في عدد هام من الولايات ـ إنما يمثل كارثة حقيقية ومنعرجا خطيرا في مسيرة بلادنا.
متى سيأتي يوم وتنطلق فيه «اجيورنامنتو» كاملة لإعادة الاعتبار لقيم الإبداع: الإبداع الفني والإبداع الثقافي والإبداع المعرفي؟
متى ستصبح التكنولوجيا في خدمة التنمية وليست التنمية في خدمة التكنولوجيا؟
متى ستصبح الإعلامية في خدمة الاقتصاد والبشر وليس الاقتصاد والبشر في خدمة  الإعلامية؟